Countact Us   Mkassed   Usefully   Fath-AlRahman   Quran   Introduction   Author   Home  

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ هِدَايَةً وَرُشْدًا، وَأَحْكَمَ شِرْعَتَهُ وَجَعَلَ سَبِيلَهُ قَصْدًا. وَصَرَّفَ فِيهِ السُّلْطَانَ وَالبُرْهَانَ لِنُقَدِّسَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.

أَمَّا بَعْدُ:

فَهَذَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ الْخَاتَمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُصَدِّقًا لِمَا سَبَقَ مِنْ كِتَابٍ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، شَاءَ مُوحِيهِ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يَجْعَلَهُ الْمُعْجِزَةَ الَّتِي لَا يَأْتِيهَا بَاطِلٌ، بَلْ تَبْقَى عَزِيزَةً مَجِيدَةً بَيِّنَةً تَامَّةً صَادِقَةً عَادِلَةً؛ شِفَاءً وَضِيَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.

هَذَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ مُعْجِزٌ بِلَفْظِهِ مُعْجِزٌ بِمَعْنَاهُ، عَجَزَ الثَّقَلَانِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَسَيَظَلُّ الْخَلْقُ جَمِيعًا عَاجِزِينَ، وَاخْتَارَ اللَّهُ نَاسًا كَرَّمَهُمْ بِطَلَبِ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَيَسَّرَهَا لَهُمْ، فَعَدُّوا آيَاتِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَعَدُّوا كَلِمَاتِهَا، فَالْآيَاتُ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَسِتٌ وَعِشْرُونَ آيَةً، وَكَلِمَاتُهَا سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً، ثُلُثَاهَا تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ وَتَكَرَّرَ، وَثُلُثٌ مِنْهَا لَمْ يَرِدْ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، بَلْ أَحْصَوْا حُرُوفَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَجُمْلَتُهَا 340740 حَرْفًا، ثُمَّ حَدَّدُوا الْحَرْفَ الَّذِي يَتَوَسَّطُ الْمُصْحَفَ، فَإِذَا هُوَ [الْفَاءُ] فِي ﴿ ... وَلْيَتَلَطَّفْ... مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، ثُُمَّ سَبَّعُوهُ عَلَى الْحُرُوفِ، فَإِذَا الْحَرْفُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ سُبْعَيْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي هُوَ الدَّالُ فِي ﴿ ... وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ... مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ؛ وَالسُّبْعُ الثَّانِي نِهَايَتُهُ حَرْفُ التَّاءِ فِي ﴿ ... أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ... مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهَكَذَا. وَالسُّبْعُ السَّابِعُ يَبْدَأُ بَعْدَ الْوَاوِ الَّتِي فِي الْقَوْلِ الْكَرِيمِ ﴿ ... الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ... مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.

وَأَمَّا مَا استُودِعَ الْفُرْقَانُ مِنْ نُورٍ لِلْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْبَصَائِرِ فَلَنْ يُحِيطَ بِهِ الْمُحْصُونَ ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَا الظَّالِمُونَ ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَوْ شَاءَ مُوحِيهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقَطِّعَ بِهِ الْأَرْضَ أَوْ يُسَيِّرَ بِهِ الْجِبَالَ لَخَضَعَتْ لِسُلْطَانِهِ، بَلْ مَا إِنْ سَمِعَهُ الْجِنُّ حَتَّى أَذْعَنُوا وَآمَنُوا ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ؛ وَالْمُؤْمِنُونَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ... ؛ وَالْمُتَدَبِّرُونَ لِلْكِتَابِ الْمَجِيدِ يُدْرِكُونَ بَرَكَتَهُ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْمُصْطَبِغُونَ بِصِبْغَتِهِ مُسْتَجِيبُونَ لِمَنْ أَنْزَلَهُ، وَلِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوعَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ، يَتَزَكُّونَ بِمِنْهَاجِهِ، وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴿ ... كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

وَاللَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَ تَدَارُسَنَا هَذَا سَبِيلًا إِلَى تَقْدِيسِهِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ، وَالْتِزَامِ حُكْمِهِ وَالتَّنَافُسِ فِي مَرْضَاتِهِ، إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


هَذَا التَّفْسِيرُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ
مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
وَبَعْدُ:

فَعِلْمُ التَّفْسِيرِ يَسْتَمِدُّ مَجْدَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمَجِيدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنِ الدَّخَلِ الَّذِي تَأْبَاهُ قَدَاسَةُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ. لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمَرَاجِعِ يَشِيعُ فِيهَا:
    أَوَّلًا: إِيرَادُ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْوَاهِيَةِ، وَالْأَسَاطِيرِ وَالْمُفْتَرَيَاتِ، تُنْقَضُ فِيهَا تِلْكَ الْمَزَاعِمُ حِينًا وَأَحْيَانًا تُورَدُ وَلَا تُفَنَّدُ.
    ثَانِيًا: التَّطْوِيلُ الْمُتَمَادَى – إِذْ قَدْ تُفَسَّرُ الْكَلِمَةُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ كَلِمَةٍ.
    ثَالِثًا: الِاخْتِصَارُ الشَّدِيدُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ أَوِ الْإِحَالَةُ عَلَى آيَاتٍ سَبَقَتْ.
    رَابِعًا: الِاسْتِرْسَالُ فِي جَوَانَبَ هِيَ وَسَائِلُ لِهَذَا الْعِلْمِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَايَاتِهِ.
    خَامِسًا: الْإِقْلَالُ أَوْ إِغْفَالُ جَانِبِ التَّزْكِيَةِ، وَهِيَ قَرِينَةُ تِلَاوَةِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَالْعِلْمِ بِهِ، كَمَا هِيَ دَعْوَةُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ... وَعَمَّا قَلِيلٍ أُورِدُ مَثَلًا لِمَا سَبَقَ.

وَقَدْ شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْرِي وَيَسَّرَ لِي أَنْ أُعِدَّ تَفْسِيرًا لِسُوَرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَرَصْتُ فِيهِ عَلَى مَا يَلِي:
    1 - تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُُرْآنِ، مَعَ ذِكْرِ رَقْمِ الْآيَةِ وَاسْمِ السُّورَةِ.
    2 - التَّفْسِيرُ بِمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَا قَصُرَ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَرُبَّمَا أُورِدُهُ فِي الْحَاشِيَةِ، أَوْ بَيْنَ عَارِضَتَيْنِ مَعْزُوًّا إِلَى مُخْرِجِهِ.
    3 - التَّفْسِيرُ بِالثَّابِتِ عَنِ الصَّحْبِ الْكِرَامِ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ.
    4 - التَّفْسِيرُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ بِهِ مِنْ فَهْمٍ، الْتَزَمْتُ فِيهِ – مَا اسْتَطَعْتُ – إِلَى جَانِبِ مَا أَسْلَفْتُ، أُمُورًا مِنْهَا:
        (أ) الْبَيَانُ دُونَ تَطْوِيلٍ مُمِلٍّ، أَوِ اختِصَارٍ مُخِلٍّ.
        (ب) الرَّدُّ عَلَى الشُّبُهَاتِ.
        (ج) الْإِشَارَةُ إِلَى أَوْجُهِ الْإِعْجَازِ الْبَلَاغِيِّ وَالتَّرْبَوِيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ وَالْعِلْمِيِّ كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ.
        (د) رِعَايَةُ السِّيَاقِ.
        (هـ) إِبْقَاءُ الْكَلِمَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْهَا صَارِفٌ.
        (و) التَّذْكِيرُ بِأَمَانَةِ الْآيَاتِ الْمُبَارَكَاتِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ بِهَا، والِاستِمْسَاكُ بِهَدْيِهَا، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَالتَّزَكِّي بِخُلُقِهَا، فَهِيَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْمُفْرِطِينَ، وَهِيَ ضِيَاءٌ وَشَفِيْعٌ لَدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَبُرْهَانٌ لِلْمُتَّبِعِينَ، وَإِنَّهَا لَمِنْ مِنَنِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...
وَالْحَمْدُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ.


أَوَّلًا:
(أ) رَبُّنَا الْمَلِكُ الْحَقُّ وَعَدَنَا أَنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِتَيْسِيرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِنَا مَفَاتِحَ هُدَاهُ؛ يَقُولُ جَلَّ عُلَاهُ: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ . وَشَاءَ تَبَارَكَتْ آلَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَنْ يَجْعَلَ رَسُولَهُ الدَّالَّ عَلَى مَا أَرَادَ رَبُّنَا فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ؛ يَقُولُ مَوْلَانَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ .. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ... مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: الْآيَةِ 44.
فَالْحَدِيثُ الشَّرِيفُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَيَانِ مَعَانِي كَلَامِ رَبِّنَا الْحَكِيمِ، وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمُ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَبِّرَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، الدَّالَّ عَلَى مَعَانِيهِ، الْمُبَيِّنَ لِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ.
فَكُلُّ مُفَسِّرٍ يَبْتَغِي أَنْ يَسْتَبْصِرَ بِنُورِ الْفُرْقَانِ وَيُبَصِّرَ بِهِ - حَتْمٌ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِمِشْكَاةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْهَا الْغَنَاءُ؛ وَلَيْسَ الضَّعِيفُ وَلَا الْوَاهِي مِمَّا سُوِّغَ نَقْلُهُ فِي الْبَحْثِ الْعَادِيِّ، بَلْ لَا بُدَّ لِلْبَاحِثِ مِنْ تَوْثِيقِ نُقُولِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ وَالْكِتَابَ الْحَمِيدَ؟!

(ب) إِيرَادُ مَا نُقِلَ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ – وَأَكْثَرُهُ مَزَاعِمُ وَبُهْتَانٌ - تَأْبَاهُ قَدَاسَةُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: أَفَاضَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي نَقْلِ مَا لَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ، وَأَوْرَدُوا فِي مَعْنَى فِتْنَةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ - عَلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ – أَوْرَدُوا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ بَعْضُهُمْ لِتَكْذِيبِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطَالَ فِي ذِكْرِ أَسَاطِيرَ وَأَحَادِيثَ وَاهِيَةٍ، حَكَمَ عَلَيْهَا الْبَيْضَاوِيُّ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهَا هُرَاءٌ وَافْتِرَاءٌ، وَمِمَّا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَايَا، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ضَرُورَةً أَنَّا لَوجَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ نَثِقْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ يَمُرُّ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا حَكَى الْقُصَّاصُ مِمَّا فِيهِ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ طَرَحْنَاهُ.

ثَانِيًا: التَّطْوِيلُ يَبْلُغُ فِي مَرْجِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاجِعِ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ عُلَاهُ: ﴿ ... مَاءً طَهُورًا فِي خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةً، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ كَلِمَةٍ.

ثَالِثًا: الِاختِصَارُ الشَّدِيدُ حَتَّى لَيُفَسِّرُ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ: ﴿ بَلْ ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُبَارَكَةَ بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ كَلِمَةً.

رَابِعًا: الِاستِرْسَالُ فِي بُحُوثٍ هِيَ وَسَائِلُ لِلتَّفْسِيرِ، وَلَيْسَتْ مِنْ غَايَاتِهِ، فَقَدْ يَسْتَقْصِي مَا قَالَ أَصْحَابُ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ وَاخْتِلَافَهُم فِي ذَلِكَ، والِانتِصَارَ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ وَحُجَّةَ الْمُخَالِفِينَ، وَالرَّدَّ عَلَيْهَا، حَتَّى لَيَكَادُ يَنْسَى الْقَارِئُ مَا كَانَ يَبْتَغِيهِ مِنْ فَهْمِ مَعْنًى لِقَوْلِ رَبَّانِيٍّ حَكِيمٍ، وَقَدْ يَتَّجِهُ مُفَسِّرٌ إِلَى مَعْنًى مُحْتَمَلٍ فَيَسُوقُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ يَمْضِي مُسْتَطْرِدًا فِي التَّعْرِيفِ بِمَا قَصَدَ إِلَيْهِ وَأَطْوَارِهِ،

فَمَثَلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى – حِكَايَةً عَنْ قَارُونَ -: ﴿ .. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي.. مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: مِنَ الْآيَةِ 78 – يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَرَاجِعِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ مَا حَاصِلُهُ: ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلِمَهُ قَارُونُ، هُوَ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، وَيُتَابِعُ فَيَذْكُرُ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعَادِنِ تُطْرَقُ، وَأُخْرَى تُسْحَبُ، وَيَنْسُبُ إِلَى ابنِ سِينَاءَ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ لَهُ فِي الْكِيمْيَاءِ نَظَرِيَّاتٌ، وَيُخَطِّئُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا.

وَلَسْتُ أَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْمَرَاجِعَ لَيْسَتْ بِذَاتِ بَالٍ، بَلْ لَقَدْ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ مَا لَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَحَاشَا لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبْخَسَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَقَدْ بَذَلُوا – رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ – وُسْعَهُمْ، وَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ كَمَا قِيلَ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّا مُسْتَحْفَظُونَ عَلَى كِتَابِ رَبِّنَا الْعَزِيزِ، وَمِنْ أَمَانَاتِهِ أَنْ نُنَافِحَ عَنْهُ وَلَا نَرْضَى فِيهِ بِقَولٍ يُجَانِبُهُ الصَّوَابُ.

وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.

المؤلف          
عبـد المنـعـم أحـمـد تعـيلب
أستاذ الدراسات الإسلامية
بجامعة الملك عبد العزيز

 Hosted By 4QHOST.COM
Dr AbdElMoneem Ahmed Taelab